كُتاب البوابة

خلف أسوار الحياة

في طيّات هذا العالم وخلف أسوارها الشاهقة وأركانها المزدانة ردهةً مجهولة، وآهٍ كم فيها من صفحاتٍ قد اقُتلعت ، وحكايات رُدمت ، وأحلام خلاف أثقالها قد نُسفت ، وثُغورٌ أُوصدت بسماتها ومرضت أجسادها . أتحدث هنا عن فئة تحتلّ من مجتمعنا حجمًا أكبر ، عن أناس نُسيوا ، وأرواحهم قُترت ، وآسفاً على الكمّ من جعوبها قد كُظمت ، فبين جُعب هذه الحياة ومسارتها دروبًا على أجسادها عِسار، وخلف أسوارها دمار ، هنالك أرواحٌ بين طياتها قِتار ، لايُعرف ما عاشت من حجم أقواتِها المُنهارة ، خلف نزاهة هذا العالم وفي أطواره صواعدٌ من دثارٍ ، إنها الأرواح المكبوتة خلف أسوار الحياة ، إلى من استمالت أيامهم للمعاناة ، إلى ضحايا طمع غزاةٍ الناس والمواقف الوطيدة ؛ سُكان دور الرعاية المنسيين ، إلى من هم في دار الرعاية الإجتماعية والذين هجروهم أهاليهم وولدوا للمعاناة في دار الأيتام ، الذين فقدوا آبائهم ونسوا بلسم الروح بسنٍ صغير واستوطنوا دار المسنين ، الذين هجروهم أفلاذ أكبادهم دون رحمة . سكان دور المصحات النفسية الذين اتحدّ عليهم الزمان والأوجاع وغاصوا في حضيض الحياة . والله لاعبارات ولا كلمات قد تصف معاناتهم وما أكتبه مجرد سطحيات من معاناتهم وهذا أقل ما يُعمل لأجلهم و وأرجو من تلك الحروف أن تشكل وقعاً على طبول المسؤولين ليساندوهم على أكمل وجه ويلتفتوا لمأساتهم .

فلكم من الأبعاد المجهولة الذي لايعرف عنها العالم ولايدركوا حجم معاناتها وإنّ لمعظمهم يتعرضون لأقسى المواقف وأبجح الأساليب من نظرة المُجتمع الوطيدة عليهم، فحين تهرب تلك الأروح طمعاً بالأمان، تصطدم بما تكابده من العالم ؛ فلا أمانٌ قد حل ولا وئامٌ استحلّ ! يسكن بعضهم في مبانٍ متهالكة ويواجهون بها لحظاتٍ عصيبة من حروبهم النفسية على أكتافهم الوهينة، يتجرعون لحظات الوحدة لحظة بلحظة ، فحتى عند اقتراب الفرج وتمسكهم ببصيص الأمل عند الخروج من تلك الدور يتفاجئوا بأن بعض أهاليهم يرفضون استقبالهم !! أليس مؤلمًا عندما يكون مصدر أمانك الوحيد بهذه الحياة هو مصدر معاناتك ؟ إنه الألم الذي تتفطّر منه القلوب ،بل إن بعضهم توافيه المنيّة ولا يقف على جنازته أحد من أهله وأقاربه وأصحابه ، فتذهب الروح بخيبة وتُرهق بقَتر ، فأيُّ آسىً هذا !
صمت المجتمع اتجاه هذه الفئة وعدم إشراكه في دعمهم وأنه جزء منهم ليُشعرهم بشعور الغربة في هذا العالم ، خصوصاً للأطفال الـمولودين بنسب مجهول ؛ فلا شيء يمثل هويتهم وهذا يُشعرهم بعدم الرضا عن حياتهم ، أيضًا ينبغي التقليل من النقل العشوائي لبعض الدور خصوصًا دار الأيتام فبعد أن اعتادوا على بعضهم وشكلوا أسرًا صغيرة طوال تلك السنين يتفرقوا فجأة بسبب النقل المفاجئ، ومن المشاكل بتلك الدور أن معظمها لايوجد بها وسائل ترفيهية وتعليمية ؛ فمثلاً حين التنويم بالرعاية النفسية تجد أن المريض قد يزداد سوءًا فيها نتيجة عدم مناسبة البيئة له وفرض القوانين فيها ، أو أن تكون نزيلًا لأحد الدور فتُجمع مع النزلاء الآخرين بلا مراعاة للخصوصية ، وهناك بعض الممارسات المجتمعية السيئة تجاه النزلاء ومن أبرزها أن أصحاب العلل والمتعاطين يلجئون لسكان تلك الدور لغرض الزواج ويظنوا بذلك أنهم أناس سهلين المنال فتحدث تجاوزات وإجحاف بحقوقوهن وهذا شيء غير مرضي ، وبعضهن تتخلى عن بعض حقوقها ظناً منها أنه بالزواج ستخرج للأبد من تلك الدار ولكن حينما تقع مشكلة لاقدر الله تعود إلى حيث كانت ولا يتم توفير مسكن خاص لها بل تعود من خيبة إلى خيبة ، فنتمنى أن يقف الجميع مع هذه الفئة المكبوتة ومتابعة حالاتهم وإعطائهم جُل الإهتمام وعدم التساهل في التقصير تجاههم ، لذا أطمح أن يتم الاهتمام بهم بشكلٍ عام وممارسة الأساليب التي تهتم بالجانب الإنساني ؛ لتبقى تلك الدور هي مصدر الأمان الوحيد بعد الله بعد هروبهم من ظلم الناس وفقد الأهالي وهجر الأحباب . أليس علينا أن نتكاتف جميعًا لنخدم تلك الفئة المظلومة التي أحزننا حزنهم ، ونوفر لهم مبانٍ فيها جمالية ومظهرها أنيق ومتواضع ، فلنصحح نظرة المجتمع فيهم ، وأنهم بشر مثلنا يستحقون حياةً أفضل وندعهم في توفير وتحقيق فرص عمل لهم ، وإعطائهم الحرية والخصوصية الملائمة لهم وعدم فرض قوانين صارمة عليهم وتوظيفهم والتأكد من صلاحيتهم لمزاولة أي مهنة، وإعطائهم كامل حقوقهم بلا إجحاف ، وتوفير لهم معونات مادية ومعنوية ، وتسخير الفعاليات والرحلات لهم و وسائل الترفهيية ومراعاة جوانبهم النفسية والجسدية ودمجهم مع المجتمع وإشاركهم في بناء هذا الوطن العظيم ، وأيضًا دعمهم في الفعاليات التطوعية وحضور المناسبات المجتمعية والعمل ببيئة سليمة، فلنكن لهم لا عليهم ولنكن يدًا حانية تزيل أوجاعهم بحباوة ولُطف .

ختاماً: إذا شعرت أن تلك الأسطر لامست جانبك الإنساني فاعلم أنك إنسان سوي تحمل قلبًا رحيمًا وروحًا تحب لنفسها ماتحب للآخرين ، وإن كنت من المسؤولين عن تلك الفئة فوجب عليك البذل بكامل استطاعتك لتخليصهم من ذلك الحمل المؤصد على عاتقهم ، فلا تجعل تلك العبارات تمر مرور الكرام عليك بل اجعلها تُترجم أفعالك ورغبتك الداخلية الراغبةً في الخير . فلنساهم جميعاً بالوقوف مع من أثقلت الحياة أرواحهم ولنشعر بالمسؤولية ولنكن معهم ولهم حتى ننعم بحياةٍ رغيدة وبيئة سعيدة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى