كُتاب البوابة

أنا والشمس

على شاطئ الغروب في عروس البحر الأحمر أوقفت محرك سيارتي لأتأمل الشمس وهي تلم أذيالها لتسقط في البحر في منظر رهيب ، وأنا أتابعها بعين الشفقة والرحمة وأناجي نفسي .. هل ستغرق ؟ هل ستقاوم ظلمة البحر والليل ؟، هل ذلك النور الذي ابتسم لي في الربيع ، وضحك في الصيف ، وتأوه في الخريف يريد أن يبكيني الآن ؟
عدت إلى المنزل أحاول يائسا أن أنام.. تقلبتُ يمنة ويسرة ومرت بي غفوة قصيرة ! حلمت فيها أنني في مزرعة على ضفة وادي، وبها النخيل والأشجار والماء ينساب في جدول بلوري على جوانبه حبوب قمح متناثرة ،ورأيت هناك قفصًا حبكت ضلوعه يدٌ ماهرة ، وفي إحدى زواياه عصفورٌ ميت، عيناه شاخصتان إلى السماء ، والأطفال حوله يتراقصون ويلعبون ، فوقفت وقد امتلكتني السكينة، وأصغيت صاغرًا ، وكأن الطائر الميت يريد أن يهمس في أذني بكلمة ، وتخيلت أن الشاعر مالك بن الريب أمامي يردد بيته الذي رثى فيه نفسه :

يقولون لا تبعد وهم يدفنونني
⁠‫وأين مكان البعد إلا مكانيا؟

وفجأة رأيت جموعا من الناس يزفون جنازة تحمل رفات ميت ، وهم يرقصون على أنغام موسيقى صاخبة ويمسحون دموع أعينهم بمناديل متعددة الألوان .
صحوت مذعورا ونظرت إلى الساعة فإذا خيوط الفجر على وشك الطلوع ، فتحت النافذة قُبَيْلَ بزوغ الشمس من وراء الشَّفَقِ، في تلك الساعة المملوءة طهرًا وجمالًا بينما كان غيري متدثرا في طي لحف الكرى تنتابه الأحلام تارة واليقظة تارة أخرى، كنت متوسدًا كوعي متعجبًا مما أرى ، هل هو حلم أم حقيقة ؟
أهكذا يندثر التاريخ تحت أقدام الدهر؟ أهكذا ستطوينا أيام وليالِ قادمات ولا تحفظ لنا سوى اسم نخطُّه على صفحاتها بماء عوضا عن المداد؟ أينطفئ هذا النور وتزول هذه المحبة وتضمحل هذه الأماني؟
كوابيس .. أفكار مزعجة .. وجدت نفسي أخرج بعدها محركًا مقود سيارتي لا أدري إلى أين … طفتُ شوارع جدة التي كانت تكتظ بالغادين والرائحين دون سماع أبواق مزعجة ولازحام ، ورأيت عماراتها شاحبة اللون مكسورة الخاطر، وفجأة وقفت أمام جدار كتب عليه بخط جميل (( جدة أهلي وبحر)) استوقفتني العبارة نزلت من سيارتي وربت بيدي على الجدار ، وكأني أسأله ألا تزال جدة أهلي وبحر؟ فجاءني الجواب من شيخ وقور كان متكئا على الجدار وقال : لا تحزن يا صاحبي طالما البحر باقٍ فالأهلي باقٍ ولن يتخلى أحد منهما عن الآخر ..
قلت له زدني يا عم قال يا بني : في طريقك للحلم ستجد ألف شخصٍ يتخلَّى عنك، لا تهتم فالأشخاص راحلون والحلم باقٍ، بهذا آمنت، وهكذا أكملت طريقي، رغم قسوة أن يدفنك أهلك وأنت على قيد الحياة، ويُشيعوا جنازتك وأنت حَيٌّ تُرزق.

يا بني طبطب على قلبك بما يخطه قلمك من نثريات، لا تخنق نفسك بالصمت ، كتاباتك ليست شفقة أو استجداء ، عش مرفوع الرأس ، أنت أهلاوي .. وسيبقى الكبير كبير .. وعبر الزمان سنمضي معا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى