محليات

إمام المسجد النبوي: إن المؤمن ليوقن حين تبطئ سحائب الفرج أن أبطأ الدلاء فيضاً أملؤها

خطب وأم المصلين في المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور أحمد بن علي الحذيفي إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف واستهل خطبته قائلاً: معاشر المؤمنين والمؤمنات: إن سيرة سيد الخلق معين لا تكدره دلاء الواردين، وروضة فيحاء لا تضيق بالرائحين والغادين، فلنقطف من ثمار رياضها، ونعُل من سلسال حياضها، ونتفيأ ظلالها، ونرتع خلالها، برهة من عمر الزمان.

في مثل هذه الأيام من مثل هذا الشهر المحرم عزم المصطفى صلى الله عليه وسلم على زورة البيت العتيق معتمراً، على إثر رؤيا حق رآها -ورؤيا الأنبياء وحي- أنه يدخل المسجد الحرام هو وأصحابه آمنين محلقين ومقصرين، فبشر بذلك أصحابه، وتحركت لواعج أشواقهم إلى البيت العتيق بعد ست سنوات من البعد والنوى، فخرج في زهاء أربعمائة وألف من أصحابه في مستهل ذي القعدة، ميمماً راحلته
شطر البيت الحرام، يسوقها إلى تلك الربوع سوقا، ويحثها إلى مهوى قلبه شوقاً، فسار لا يلوي على غير البيت العتيق ولا يقصد إلى غيره، ليس معه ومع أصحابه من سلاح إلا سلاح المسافر، فتحرك الركب الميمون حتى إذا بلغ ذا الحليفة أحرم بالعمرة، وقلد الهدي وأشعره، ليعلم الرائي أنه ركب وافد على البيت لا يريد القتال، فمضوا سراعاً تطوي رواحلهم البيد طياً، كأن أخفافها تطأ مثل جمر الغضا أو شوك
السعدان، فلما اقترب من الحديبية بركت ناقته القصواء، فقال بعض الناس: خلأت القصواء! فقال: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل… والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، ثم زجرها فوثبت، حتى نزل بأقصى الحديبية، فبلغه أن أهل مكة قد أرصدوا له ليصدوه عن البيت، فقال : (إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين) فأبوا
أن يدخل مكة لئلا يتحدث العرب أنه دخلها عنوة، وبعد مراسلات ومداولات بين الفريقين جنحوا للصلح على أن يرجع ذلك العام ويعود من العام القابل، فيقيم بمكة ثلاثاً ليس معه ومع أصحابه إلا سلاح الراكب، وتم أمر الصلح على ما رغب أهل
مكة، فشق ذلك على بعض الصحابة مشقة عظيمة؛ لما حيل بينهم وبين البيت الحرام، ولما تضمنته بنود ذلك الصلح من شروط مجحفة، فأنزل الله في ذلك سورة الفتح، منصرفه من الحديبية، واستهلها باستهلال عجيب واستفتاح مهيب: (إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا، لِّيَغۡفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَيَهۡدِيَكَ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا، وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصۡرًا عَزِيزًا، هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِيمَٰنٗا مَّعَ إِيمَٰنِهِمۡۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا)… في تسلسل بديع يستلب القلوب.

وأكمل فضيلته: إنها واقعة من وقائع سيرته العطرة، وحادثة من حوادث أيامه النضرة، تحمل في طياتها
من العظات والدروس، ما تضيق عنه بيض الصحائف والطروس، تستوجب النظر بعين الاعتبار إلى معالم آثارها، واستنطاق العبرة واستدرار العبرة من أسرار أخبارها: من تلكم العبر والدروس: أنه ربما تشرق النفوس بالأمر وتغص به لما يبدو لها في
ظاهره، ولكن الله يقضي للمؤمن القضاء الذي يحمد مآله، فينجلي غبار المكروه عن محبوب، ويبسم وجه النهار بعد غمرة الدجى، إن المؤمن ليوقن حين تبطئ سحائب الفرج، أن أبطأ الدلاء فيضاً أملؤها، وأثقل السحائب مشيا أحفلها، وما ألذ الشراب حين يصيب غليلاً، وأنفع الغيث حين يصادف
جدباً.

لقد سمى الله ذلك الصلح مع ما في ظاهره مما تكرهه النفوس وتأباه فتحا مبينا، وذلك أنه حين ينفذ نظر الاعتبار من ظاهر أمر ذلك الصلح إلى ما آل إليه ، ويستشرف عاقبته ويطمح ببصيرته إلى غايته، يتحقق صدق ربنا في محكم تنزيله حيث يقول: ( فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا).

ومن تلكم العبر والدروس: أن ذلك الصلح كان مظهرا جلياً من مظاهر حكمة الله تعالى البالغة، ودلالة بينة من دلائل نبوة سيدنا محمد، فقد كان مثار الدهش ومبعث العجب في مبدئه ومنتهى أمره، فإنه جرى في أمر ذلك الصلح على خلاف ما ألف منه صحابته رضي الله عنهم في استشارتهم، وعرض الأمر عليهم في مثل هذه النوازل معرض النظر والمراجعة، وتشريعا لأمته، لكنه في هذه
الحادثة جاءه الوحي الإلهي من العليم الخبير بإبرام ذلك الصلح على ما تم عليه أمره، فانجلت عاقبته إلى ما دونه التاريخ من انقلاب الموازين لصالح رسول الله ومن معه من المسلمين.

وأضاف: وفيه درس بليغ لكل من يصادم الوحي الصحيح الثابت حين يقصر عقله عن درك مراميه وتعقل معانيه، بأن يعرف أن للعقل البشري حدوداً هي حدود بشريته القاصرة، فليس من حملة العلم على الحقيقة من يرد ثابت الأثر ولا من أهله، والمتجاسر على ذلك إنما يزري بنفسه وينادي بجهله، على أن من المقررات المسلمات عند أرباب العلم وأهل الرسوخ أنه لا يتعارض صحيح النقل مع صريح العقل.

واختتم فضيلته الخطبة بقوله: وإن من تلكم العبر التي فاضت بها تلك الحادثة: أن الله تعالى حين أخبر بأنه صدق رسوله الرؤيا التي رآها اقسم على دخوله هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين، أكد ذلك بنفي الخوف عنهم من كل وجه، فلا يداخل قلوبهم شيء منه، قال تعالى ( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا).،وفيه إشارة إلى عظيم نعمة الأمن في ذلك المقام العظيم والمشهد المهيب الذي يصور عظمة الإسلام وجلاله وسمو مباديه ومبانيه، في ملتقى للمسلمين تلتحم فيه الأجسام وتتعانق فيه القلوب، لإعلان شعار التوحيد
وتحقيق العبودية الخالصة لله تعالى، وتنصهر فيه كل الفوارق البشرية وتتلاشى، فلا يبقى إلا التفاضل بالإيمان والتقوى، فإنها لا تتحقق مقاصده ولا يستقيم أمره ولا تحصل غايته التي شرع لأجلها إلا حينما تغشاه السكينة وتحفه الطمانينة ويظلله
الأمن، وهو أمر يسره الله للمسلمين وهيأه لهم في هذه البلاد المباركة، فيقضي المسلمون مناسكهم ويؤدون شعائرهم راتعين في أفياء من السكينة والأمن والرخاء، فلله الحمد على ما أنعم وأولى وأسدى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى