صناعة الأدوية والأجهزة الطبية في المملكة.. قفزة نوعية نحو تحقيق الأمن الصحي والاكتفاء الذاتي
يعد قطاع صناعات الأدوية والأجهزة الطبية من أبرز القطاعات الصناعية الواعدة التي ركزت على تطويرها الاستراتيجية الوطنية للصناعة، لما يشكّله من أهمية كبرى في تحقيق الأمن الدوائي والصحي، وتعزيز الاستقلالية للمملكة في هذا المجال عبر تأمين احتياجاتها الطبية وبناء القدرات الصناعية النوعية في هذا القطاع، وصولاً إلى أن تكون السعودية مركزاً مهماً لهذه الصناعة الواعدة.
ولتحقيق مستهدفات المملكة في هذا القطاع الحيوي، حدّدت وزارة الصناعة والثروة المعدنية الصناعات الدوائية التي تحتاج المملكة إلى توطينها، ونشطت في بناء الشراكات الاستراتيجية مع الشركات العالمية الرائدة في هذا القطاع لنقل التكنولوجيا والمعرفة، كما اهتمّت بتعزيز الشراكة بين القطاع العام التشريعي والقطاع الخاص للاستثمار والتنفيذ، باعتبار تلك الخطوة من أهم مقومات النجاح في تحقيق النمو المستدام في قطاع الرعاية الصحية، كما اهتمّت الوزارة بنمو المحتوى المحلي وتوطين أحدث التقنيات الطبية، إضافة إلى جذب الاستثمارات الأجنبية إلى قطاع الرعاية الصحية.
ويعتبر قرار مجلس الوزراء القاضي بتشكيل لجنة صناعة اللقاحات والأدوية الحيوية برئاسة وزير الصناعة والثروة والمعدنية الأستاذ بندر بن إبراهيم الخريف؛ خطوة مهمة نحو توطين صناعة الأدوية وتحقيق الأمن الدوائي والصحي للمملكة، إلى جانب دورها الكبير في الارتقاء بمستوى الخدمات الصحية المقدمة، وتحويل المملكة إلى مركز مهم لهذه الصناعة الواعدة.
وتستهدف اللجنة تحديد أفضل التقنيات في مجال اللقاحات والأدوية الحيوية التي يتوجب على المملكة الاستثمار فيها بهدف نقل المعرفة وتوطينها، إضافةً إلى بناء منصات صناعية محلية بمواصفات عالمية لتمكين المملكة من تبوُّؤ مكانها الطبيعي كقوة صناعية ومنصة لوجستية للّقاحات والأدوية الحيوية في المنطقة والشرق الأوسط ودول العالم الإسلامي.
ويكشف تقرير صادر عن وزارة الصناعة والثروة المعدنية، التطوّر الملحوظ الذي شهدته صناعة الأدوية والأجهزة الطبية في المملكة خلال الأعوام الأخيرة، حيث بلغ عدد مصانع الأدوية والأجهزة الطبية مجتمعة 206 مصانع قائمة، ووصل عدد المصانع الدوائية تحديداً 56 مصنعاً دوائياً مرخصاً ومسجلاً في الهيئة العامة للغذاء والدواء باستثمارات إجمالية تزيد عن سبعة مليارات ريال.
وكان وزير الصناعة والثروة المعدنية بندر بن إبراهيم الخريف، أعلن في يونيو 2022، عن طرح عدد من الفرص الاستثمارية في صناعة اللقاحات والأدوية الحيوية بقيمة تتجاوز 11 مليار ريال، وذلك تحقيقاً لتوجهات المملكة الهادفة إلى تحقيق الأمن الدوائي والصحي، وجعل السعودية مركزاً مهماً لهذه الصناعة الواعدة.
ويبلغ حجم السوق العالمي للأدوية نحو 1,1 تريليون دولار، تقدّر حصة منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا منها 31 مليار دولار، كما تعدّ المملكة أكبر سوق للأدوية في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، حيث تقدّر قيمة سوقها الدوائي بــــــ 10 مليار دولار، أي نحو 32٪ من إجمالي حصة منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا من السوق العالمي.
وشهد السوق الدوائي في المملكة نمواً لافتاً خلال الفترة بين عام 2019 وحتى 2023م، بلغ معدّله 25%، حيث زاد حجم السوق من 8 مليارات دولار إلى 10 مليارات دولار سنوياً، وهو نموٌ يؤكد أهمية السوق الدوائي السعودي وجاذبيته للاستثمار، حيث حقق القطاع الدوائي تقدماً في معدلات توطينه، وتمّ تخفيض الواردات الدوائية من 80% في عام 2019 إلى 70 ٪ عام 2023.
ونتج عن هذا النمو في قطاع صناعة الأدوية في المملكة العربية السعودية دخول عدة تقنيات ومنتجات نوعية لأول مرة على مستوى التصنيع الكامل، فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ تمّ تصنيع أول منتج شبيه حيوي Biosimilar في المملكة Low molecular weight heparine (enoxaparine) بالكامل عبر تطوير الملف بالكامل في المملكة وتسجيله في الهيئة العامة للغذاء والدواء. ومن جانب آخر اكتمل إنشاء أول مصنع من نوعه في منطقة الخليج لتصنيع الأدوية التنفّسية عالية التقنية Dry powder inhalers وMetered dose inhalers . وعلى صعيد التميّز؛ فإن المملكة أعلنت عن إمكانات تصنيع الحقن المعقمة بطريقة التجفيد “lyophilized products”، كما تحوي المملكة المصنع الوحيد في منطقة الخليج لتصنيع المواد الصيدلانية الفعّالة APIs تحت تصنيف ممارسة التصنيع الجيد (GMP).
وفيما يتعلق بقطاع صناعة الأجهزة والمستلزمات الطبية، فقد شهد نمواً ملحوظاً على المستوى العالمي، حيث يُقدّر حجم السوق العالمي بحوالي 500 مليار دولار أمريكي، بينما يُقدّر حجم سوق الأجهزة والمستلزمات الطبية بحوالي 6.6 مليار دولار أمريكي، ويبلغ عدد المصانع المرخصة ما يقارب من 150 مصنعاً، وهو ما يمثّل زيادة بنسبة 200% عن عام 2018.
وشهد قطاع الأجهزة الطبية في المملكة تقدما ملحوظاً في سبيل تحقيق مستهدفات الاستراتيجية الوطنية للصناعة خلال عام 2023 بشكل خاص، حيث بلغ إجمالي الاستثمارات التي اجتذبها القطاع حوالي 3.1 مليار ريال.
أما على صعيد الإنجازات، فقد حقّق قطاع الأجهزة الطبية العديد من الإنجازات المهمة خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، منها إنتاج أجهزة التنفس الصناعي المتقدمة والمستخدمة في غرف العناية الفائقة وكذلك المستخدمة في المنازل، وتوطين صناعة أجهزة وشرائط قياس مستوى السكر في الدم كأول مصنع على مستوى الشرق الأوسط، وتوطين صناعة الأدوات الجراحية وأجهزة تثبيت العظام والأجهزة التعويضية، وإنتاج أجهزة نوعية متخصصة في علاج الرجفان القلبي وأجهزة مراقبة الوظائف الفسيولوجية والعلامات الحيوية، وتوطين صناعة أجهزة القياسات غير التداخلية لمستوى الأكسجين في الدم ومستوى الهيموغلوبين ومراقبة أول أكسيد الكربون، كما شهد القطاع توسّعاً في إنتاج مستهلكات المختبرات الإكلينيكية، مثل الوسائط الحيوية وأنابيب تجميع العينات وصحون الاستزراع والكواشف المخبرية.
وصاحب هذا النمو تطوراً تقنياً في المصانع الجديدة للأجهزة الطبية، فعلى سبيل المثال شهد القطاع تصنيع منتجات القساطر البالونية الطرفية والقلبية والدعامات، وتصنيع الأجهزة التقنية المعتمدة على الإلكترونيات المتقدمة والبرمجيات، والتي من المتوقع أن تساهم بشكلٍ إيجابي في تطور سلاسل القيمة المحلية، ومن ذلك أجهزة التنفس الاصطناعي، وأجهزة التصوير الطبي بالموجات فوق الصوتية، وشاشات مراقبة المرضى، وأجهزة قياس نسبة السكر في الدم، بالإضافة إلى الأجهزة التعويضية والأطراف الصناعية وأجهزة تقويم العظام المزروعة داخل الجسم.
ومن المتوقع أن يدفع الطلب الإقليمي والمحلي المتزايد إلى زيادة الصادرات السعودية من الأجهزة والمستلزمات الطبية؛ مما سيُساهم في تطوّر القطاع الطبي على المستوى الإقليمي ويعزز استجابته للطلب على هذه الأجهزة والمنتجات، كما تقوم الوزارة عبر منظومتها بدورٍ محوري في دعم وتسويق المنتجات السعودية من خلال برنامج “صنع في السعودية” في المعارض العالمية والإقليمية.
كما تعمل الوزارة عبر منظومتها بشكل متواصل على تحسين سلاسل القيمة من خلال المواءمة مع الجهات ذات العلاقة في البحث والتطوير، إلى جانب سعيها لتحقيق الميز التنافسية من خلال توفير المواد الخام محلياً بالتنسيق بين القطاعات الصناعية المختلفة مثل المعادن، والبتروكيماويات، وقطاع الأجهزة والمستلزمات الطبية، وتمثّل هذه التطورات خطوة مهمة نحو تعزيز مكانة المملكة كوجهة رائدة في صناعة الأجهزة والمستلزمات الطبية على مستوى المنطقة والعالم.
وتستهدف وزارة الصناعة والثروة المعدنية توطين 80% إلى 90% من احتياجات الشراء الحكومي من الأنسولين في المملكة، وذات النسبة تقريباً في صناعة اللقاحات. كما تنوي جذب الاستثمارات النوعية في قطاع الأدوية والرعاية الصحية والتصدير إلى الأسواق الخارجية، إضافة إلى تنمية المحتوى المحلي في قطاع صناعة الأدوية والأجهزة الطبية عبر تقديم عدداً من الحوافز المالية لشركات الأدوية والأجهزة الطبية، وتوفير المساعدة التقنية لشركات الأجهزة الطبية والأدوية، إضافة إلى دعـم الأجهزة الطبية المحلية من قبل المستشفيات في السعودية، وتعزيز دور مبادرتيّ “صنع في السعودية” و”تقنية سعودية” في توطين الصناعة الصحية.
وكشفت جائحة “كورونا” قبل عدة أعوام القدرات الصناعية النوعية للمملكة في قطاع الدواء والأجهزة الطبية واستجابته السريعة، حيث نجحت وزارة الصناعة والثروة المعدنية في تحفيز المصانع الوطنية لإنتاج السلع المهمة التي تتطلبها تلك المرحلة، ورفع القدرة الإنتاجية لمصانع الكمامات الطبية في وقتٍ قياسي من 450 ألفاً إلى 3 ملايين كمامة في اليوم، رغم تأثر العالم أجمع باضطراب سلاسل الإمداد، كما ساهمت الوزارة في رفع عدد مصانع المعقمات من 12 مصنعاً إلى 70 مصنعاً في غضون 3 أشهر، من خلال توفير المواد الخام الأساسية كالكحول الطبية عالية النقاوة محلياً، وتمّت تلك الاستجابة السريعة بدعمٍ حكوميٍّ كبيرٍ ومبادرات متكاملة لتحفيز القطاع الصناعي.
وخلال زيارة رسمية لوزير الصناعة والثروة المعدنية -رئيس لجنة صناعة اللقاحات والأدوية الحيوية- بندر بن إبراهيم الخريف إلى جمهورية البرازيل الاتحادية أواخر شهر يوليو الماضي، التقى مسؤولين حكوميين ورؤساء شركات أدوية برازيلية بارزة على مستوى العالم، حيث بحث معهم فرص نقل المعرفة والابتكار في قطاع صناعة الأدوية، وأحدث تقنيات تصنيع اللقاحات وتطويرها.
وزار الخريف معهد Butantan البرازيلي الرائد عالمياً في تطوير اللقاحات وإنتاج المستحضرات الصيدلانية والحيوية، مؤكداً خلال لقائه بعددٍ من المستثمرين والشركات البرازيلية؛ أن جمهورية البرازيل مهيّأة للشراكة مع المملكة في جميع القطاعات الصناعية المستهدفة في الاستراتيجية الوطنية للصناعة، بما في ذلك صناعة الأدوية واللقاحات، نظراً لما تتميّز به من خبرات متقدمة في هذا القطاع، مؤكداً على أهمية الاستفادة من نقاط القوة لدى الجانبين، خاصة في تطوير سلاسل الإمداد، وتعزيز التبادل التكنولوجي، ودفع الابتكار؛ لتحقيق التنمية المستدامة والمرونة الاقتصادية.
ويعد معهد Butantan، الذي تأسس عام 1901 في مدينة ساو باولو البرازيلية، أحد أكبر المنتجين للّقاحات في أمريكا اللاتينية، حيث يوفر لقاحات أساسية لحماية السكان من الأمراض المعدية، كما لعب دوراً محورياً في تطوير وإنتاج لقاح CoronaVac ضد كوفيد-19، إضافة إلى مرجعيته الكبيرة في تطوير الأبحاث الرائدة في مجالات علم المناعة وعلم الأحياء الدقيقة وعلم السموم، الأمر الذي جعله ركيزة أساسية لتعزيز الصحة العامة في البرازيل وأمريكا اللاتينية.