محليات

فضيلة الشيخ أسامة خياط في خطبة الجمعة: جعل الله الشكر سبباً لزيادة فضله وحارساً حافظاً لنعمته

أمّ المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور أسامة خياط إمام وخطيب المسجد الحرام.

وبعد أن حمد الله تبارك في علاه استهل خطبته قائلاً: عباد الله: صرفُ النعم فيما يُرضِي المُنعِم، والتقوِّي بها على طاعته، وتوجيهُها الوِجهةَ الصالحةَ، واستِعمالُها في كل خيرٍ عاجلٍ أو آجِلٍ، آيةٌ بيِّنةٌ على سعادة المرء؛ إذ سلَكَ مسالِكَ أُولِي الألباب، واقتفَى أثرَ المُتقين، الذين يبتغون الوسيلةَ بذِكره -سبحانه- وشُكرِه الذي أمرَهم به في قولِه: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾، وهو شكرٌ يبلغُ به صاحبُه المزيدَ الذي وعَدَ الله به عبادَه الشاكِرين بقوله: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾.
ولئن تتابَعَت النِّعَمُ وترادَفَت المِنَن، وتكاثَرَت الآلاء، فكانت غيثًا مِدرارًا لا ينقطِعُ هطُوله، وفيضًا غامِرًا لا يتوقَّفُ تدفُّقُه، عطاءً كريمًا من ربِّنا الكريم الرحمن الرحيم، وتفضُّلًا منه على عباده بغير استحقاق، وإحسانًا منه بغير استِكراه، إذ لا مستَكرِهَ له سبحانه، فإنَّ النِّعمة الكبرى التي لا تعدِلها نعمةٌ، والمنَّة العظمَى التي لا تَفضُلُها مِنَّة، هي نعمة الهداية إلى دين الإسلام، وإحسانه عز وجل إلى عباده أن بيَّن لهم بما أنزل في كتبه، وأوحى إلى رسله، الغاية من خلقه لهم؛ كي لا تضلَّ الأفهام في معرفتها، فأوضح سبحانه أنَّه خلق العباد جميعًا لعبادته وَحده لا شريك له، فقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، وأنه استخلف آدم في الأرض ثم استخلف ذريته من بعده، فقال عزَّ اسمه: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾.
وإن من أجلِّ النِّعم، نعمة بعثة النبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- بالهدى ودين الحق، ليخرج الناس برسالتِه منَ الظلمات إلى النور، ولِيهديهم به سُبُل السلام، ويَضَع عنهم الآصارَ والأغلال، وليسمُوَ بهم إلى ذُرى الخير والفضيلة، ويَنأَى بهم عن مهَابِط الشرِّ وحمأةِ الرذيلة، وليسلُكَ بهم كلَّ سبيل يبلِّغهم أسبابَ السعادة في العاجلة والآجلة، ولِذا كانت بعثتُه -صلى الله عليه وسلم- رحمةً للخَلقِ كافَّةً، ونعمةً على البشَر قاطبةً، كما أخبر بذلك سبحانه في أصدَق الحديث بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾، فكانت رسالتُه -عليه الصلاة والسلام- رَحمةً للخلق جميعا، عَرَبِيِّهم وأعجميِّهم، أسودِهم وأبيَضهم، ذَكَرهم وأنثاهم، إنسِهم وجانِّهم.
ومن نعم الله تعالى على عباده، نعمة السمع والأبصار والأفئدة التي خصَّها الله بالذكرِ في قوله: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، وإنما خصَّها -سبحانه- بالذكر لشرفِها ومنزلتِها؛ إذ هي مفاتيحُ كلِّ علمٍ، وسببٌ مُوصِلٌ إلى الهداية إلى صراط الله المُستقيم، وسبيلٌ يُدرِكُ به المرءُ ما يرجوه ويُؤمِّلُه، ويُميِّزُ به بين ما يضُرُّه وما ينفعُه.
ومن نعمه سبحانه على عموم خلقه، نعمة الأزواج ليأنسوا بها، ولتكون بينهم الألفة والمودة والرحمة، ونعمة الذرية من بنين وبنات وحفدة، وما رزقهم به من الطيبات، كما قال سبحانه: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾.
عباد الله: وإنَّ من نعم الله التي امتن بها على عباده، نعمة نزول الغيث والأمطار، وهطولها المدرار، قال عز اسمه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
وقد وصف سبحانه نعمة المطر بالبركة والطهر وأنه سبب الحياة، فقال تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ﴾ وقال سبحانه: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾.
وينزل الله المطر بعد إياس الناس من نزوله، في وقت حاجتهم، فهو سبحانه المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله لهم ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- “فإذا تأملت السحاب الكثيف المظلم، كيف تراه يجتمع في جو صاف لا كدورة فيه، وكيف يخلقه الله متى شاء وإذا شاء، وهو مع لينه ورخاوته حامل للماء الثقيل بين السماء والأرض، إلى أن يأذن له ربه وخالقه في إرسال ما معه من الماء، فيرسله وينزله منه مقطعاً بالقطرات، كل قطرة بقدر مخصوص اقتضته حكمته ورحمته، فيرشُّ السَّحابُ الماءَ على الأرض رشًّا، ويرسلُه قطرات منفصلة، لا تَختلط قطرةٌ منها بأخرى، لا يتقدَّم متأخِّرُها ولا يتأخَّر متقدِّمها، ولا تدرِك القطرة صاحبتَها فتمتزج بها، بل تنزِل كلُّ واحدة في الطريق الذي رسم لها لا تعدِل عنه، حتَّى تصيب الأرضَ قطرة قطرة، قد عُيِّنت كل قطرة منها لجزءٍ من الأرْض لا تتعدَّاه إلى غيره… فتأمَّل كيف يسوقُه -سبحانه- رزقًا للعباد والدَّوابِّ والطَّير والذَّرِّ والنَّمل، يسوقه رزقًا للحيوان الفلاني، في الأرْض الفلانية، بِجانب الجبل الفلاني، فيصِل إليْه على شدَّة الحاجة والعطش في وقت كذا وكذا”.
عباد الله: لقد مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على طريق من سبقه من الرسل في لزوم الشكر لله تعالى على نعمائه، وجزيل آلائه، شكرًا تترجم عنه الأعمال، وتصوِّره الأفعال، وقد جعل الله الشكر سبباً لزيادة فضله، وحارساً حافظاً لنعمته.
وإن من تمام نعمه سبحانه، وعظيم بره وكرمه وجوده وإحسانه، محبته لعباده على هذا الشكر، ورضاه منهم به، وثناءه عليهم به، ومنفعته مختصة بالعبد ولا تعود منفعته على الله، وهذا غاية الكرم الذي لا كرم فوقه، ينعم عليك ثم يوزعك شكر النعمة، ويرضى عنك ثم يعيد إليك منفعة شكرك، ويجعلك سبباً لتوالي نعمك واتصالها إليك والزيادة على ذلك منها، وهذا الوجه وحده يكفي اللبيب لينتبه به على ما بعده ﴿وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾.

وفي الخطبة الثانية بيّن فضيلة الشيخ أسامة خياط أنّهُ قد كان من هديه الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته أنه كان إذا رأى الغيث قال: “اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا” أخرجه البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها ، وفي رواية لأبي داود في سننه: “اللَّهُمَّ صَيِّبًا هنيئًا”، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: “مُطِرْنَا بفَضْلِ اللَّهِ ورَحْمَتِهِ”. أخرجه البخاري في صحيحه، وكان عليه الصلاة والسلام يحسر ثوبه حتى يصيبه المطر، قال أنس راوي الحديث: فَقُلْنَا: يا رَسولَ اللهِ، لِمَ صَنَعْتَ هذا؟ قالَ: “لأنَّهُ حَديثُ عَهْدٍ برَبِّهِ تَعَالَى”، وكان يحث الناس على الدعاء والتضرع وقت نزول الغيث، لأنه مظنة استجابة الدعاء، فيقول صلوات الله وسلامه عليه: “أطلبوا استجابةَ الدعاءِ عندَ التقاءِ الجيوشِ ، و إقامةِ الصلاةِ ، و نزولِ الغيثِ”. أخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار وهو وإن كان مرسلاً إلا أنه اعتضد بمجيئه من طرق أخرى تقوّى بها فأصبح حديثًا حسنًا.
وكان إذا سأله أصحابه أن يستصحي لهم -أي أن تمسك السماء وتعود صحوًا- استصحى لهم فقال: ” اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا و لَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ علَى الآكَامِ والظِّرَابِ، وبُطُونِ الأوْدِيَةِ، ومَنَابِتِ الشَّجَرِ”. أخرجه الشيخان في صحيحهما من حديث أنس رضي الله عنه.
فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على التزام هذا الهدي النبوي العظيم عند نزول الغيث وتتابع الأمطار، يفتح لكم بركات السماء، وتحظوا بعظم الأجر وكريم الجزاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى